فصل: تفسير الآيات (25- 27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (23- 24):

{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)}
{وَأُدْخِلَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِمْ} أي بأمره أو بتوفيقه وهدايته، وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم إظهارُ مزيدِ اللطفِ بهم والمُدْخِلون هم الملائكةُ عليهم السلام، وقرئ على صيغة المتكلم فيكون قوله تعالى: {بِإِذْنِ رَبّهِمْ} متعلقاً بقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام} أي يحيّيهم الملائكةُ بالسلام بإذن ربهم.
{أَلَمْ تَرَ} الخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم وقد عُلّق بما بعده من قوله تعالى: {كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً} أي كيف اعتمده ووضعه في موضعه اللائق به {كَلِمَةً طَيّبَةً} منصوبٌ بمضمر أي جعل كلمةً طيبة هي كلمةُ التوحيد أو كلَّ كلمة حسنةٍ كالتسبيحة والتحميدة والاستغفارِ والتوبة والدعوة {كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ} أي حكَم بأنها مثلُها لا أنه تعالى صيّرها مثلَها في الخارج وهو تفسير لقوله: {ضَرَبَ الله مَثَلاً} كقولك: شرّف الأميرُ زيداً كساه حُلةً وحمله على فرس، ويجوز أن يكون (كلمة) بدلاً من مثلاً وكشجرة صفتُها، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي هي كشجرة وأن يكون أولَ مفعوليْ ضرب إجراءً له مُجرى جعل قد أُخّر عن ثانيهما، أعني مثلاً لئلا يبعُد عن صفته التي هي كشجرة، وقد قرئت بالرفع على الابتداء {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} أي ضارب بعُروقه في الأرض، وقرأ أنسُ بنُ مالك رضي الله عنه: {كشجرة طيبة ثابتٍ أصلُها}، وقراءةُ الجماعة أقوى سبكاً وأنسبُ بقرينته أعني قوله تعالى: {وَفَرْعُهَا} أي أعلاها {فِى السماء} في جهة العلو ويجوز أن يراد وفروعُها على الاكتفاء بلفظ الجنس عن الجمع.

.تفسير الآيات (25- 27):

{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)}
{تُؤْتِى أُكُلَهَا} تعطي ثمرَها {كُلَّ حِينٍ} وقّته الله تعالى لإثمارها {بِإِذْنِ رَبّهَا} بإرادة خالقِها، والمرادُ بالشجرة المنعوتةِ إما النخلةُ كما روي مرفوعاً أو شجرة في الجنة {وَيَضْرِبُ الله الامثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لأن في ضربها زيادةَ إفهامٍ وتذكير، فإنه تصويرٌ للمعاني بصور المحسوسات.
{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} هي كلمةُ الكفر والدعاءِ إليه، أو تكذيبُ الحق، أو ما يعم الكل، أو كلُّ كلمةٍ قبيحة {كَشَجَرَةٍ} أي كمثل شجرة خبيثةٍ، قيل: هي كلُّ شجرةٍ لا يطيب ثمرُها كالحنظل والكشوث ونحوهما، وتغييرُ الأسلوب للإيذان بأن ذلك غيرُ مقصود الضرب والبيان وإنما ذلك أمرٌ ظاهرٌ يعرفه كل أحد {خَبِيثَةٍ اجتثت} استُؤصِلت وأُخذت جثّتُها بالكلية {مِن فَوْقِ الأرض} لكون عروقها قريبةً منه {مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} استقرارٍ عليها.
{يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت} الذي ثبت بالحجة عندهم وتمكّن في قلوبهم وهو الكلمةُ الطيبةُ التي ذُكرت صفتُها العجيبة {فِى الْحَياة الدُنيا} فلا يُزالون عنه إذا افتُتِنوا في دينهم كزكريا ويحيى وجرجيس وشمسون والذين فتنهم أصحابُ الأخدود {وَفِي الأخرة} فلا يتلعثمون إذا سُئلوا عن معتقدهم في الموقف ولا تُدهشُهم أهوالُ القيامة أو عند سؤال القبر. روي أنه عليه الصلاة والسلام ذكَر قبضَ روحِ المؤمن فقال: «ثم يُعاد روحُه في جسده فيأتيه ملكان فيُجلسانه في قبره، فيقولان: مَنْ ربك وما دينُك ومن نبيُّك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلامُ ونبيّي محمد عليه الصلاة والسلام، فينادي منادٍ من السماء أنه صدق عبدي» فذلك قوله تعالى: {يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت} وهذا مثالُ إيتاءِ الشجرةِ المذكورة أُكُلَها كل حين. قال الثعلبي في تفسيره: أخبرني أبو القاسم بن حبيب في سنة ستٍ وثمانين وثلاثمائة، قال: سمعت أبا الطيب محمدَ بنَ علي الخياطَ يقول: سمعت سهلَ بنَ عمار العملي يقول: رأيت يزيدَ بن هارون في منامي بعد موته فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: أتاني في قبري ملكان فظّان فقالا: من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فأخذتُ بلحيتي البيضاءِ، فقلت لهما: ألمِثلي يقال هذا، وقد علّمتُ الناسَ جوابَكما ثمانين سنة؟ فذهبا.
{وَيُضِلُّ الله الظالمين} أي يخلق فيهما الضلالَ عن الحق الذي ثبّت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارِهم، والمرادُ بهم الكفرةُ بدليل ما يقابله ووصفُهم بالظلم إما باعتبار وضعهم للشيء في غير موضعِه وإما باعتبار ظلِمهم لأنفسهم حيث بدلوا فطرةَ الله التي فطر الناسَ عليها فلم يهتدوا إلى القول الثابتِ، أو كلُ من ظلم نفسه بالاقتصار على التقليد والإعراضِ عن البينات الواضحة فلا يتثبّت في مواقف الفتن ولا يهتدي إلى الحق، فالمرادُ بالذين آمنوا حينئذ المخلصون في الإيمان والراسخون في الإيقان كما ينبىء عنه التثبيتُ لكنه يوهم كونَ كلمة التوحيد إذا كانت لا عن إيقان داخلةً تحت ما لا قرارَ له من الشجرة المضروبة مثلاً {وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاء} من تثبيت بعضٍ وإضلالِ آخرين حسبما توجبه مشيئتُه التابعةُ للحِكم البالغة المقتضيةِ لذلك، وفي إظهار الاسمِ الجليل في الموضعين من الفخامة وتربيةِ المهابة ما لا يخفى، مع ما فيه من الإيذان بالتفاوت في مبدأ التثبيتِ والإضلال فإن مبدأ صدورِ كلَ منهما عنه سبحانه وتعالى من صفاته العُلا غيرُ ما هو مبدإ صدور الآخر.

.تفسير الآيات (28- 30):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)}
{أَلَمْ تَرَ} تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد مما صنع الكفرةُ من الأباطيل التي لا تكاد تصدُر عمن له أدنى إدراك، أي ألم تنظُر {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ} أي شكرَ نعمته تعالى بأن وضعوا موضعَه {كُفْراً} عظيماً وغمْطاً لها أو بدلوا نفسَ النعمة كفراً، فإنهم لما كفروها سُلبوها فصاروا مستبدلين بها كفراً كأهل مكةَ حيث خلقهم الله سبحانه وأسكنهم حرمَه الآمنَ الذي يجبى إليه ثمراتُ كل شيء وجعلهم قِوامَ بيته وشرّفهم بمحمد عليه الصلاة والسلام فكفروا ذلك، فقُحطوا سبع سنين وقُتلوا وأُسروا يوم بدر، فصاروا أذلأَ مسلوبي النعمة باقين بالكفر بدلها. عن عمر وعلي رضي الله عنهما هم الأفجران من قريش: بنو المغيرةِ وبنو أمية أما بنو المغيرة فكُفيتموهم يوم بدر وأما بنو أمية فَمُتِّعوا إلى حين. كأنهما يتأولان ما سيتلى من قوله عز وجل: {قُلْ تَمَتَّعُواْ} الآية {وَأَحَلُّواْ} أي أنزلوا {قَوْمَهُمْ} بإرشادهم إياهم إلى طريقة الشرك والضلالِ، وعدمُ التعرض لحلولهم لدلالة الإحلالِ عليه إذ هو فرْعُ الحلول كقوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار} {دَارَ البوار} دارَ الهلاك الذي لا هلاكَ وراءه.
{جَهَنَّمَ} عطفُ بيان لها، وفي الإبهام ثم البيان ما لا يخفى من التهويل {يَصْلَوْنَهَا} حال منها أو من قومهم أي داخلين فيها مُقاسِين لحرّها، أو استئنافٌ لبيان كيفيةِ الحلولِ أو مفسر لفعل يقدر ناصباً لجهنم، فالمرادُ بالإحلال المذكورِ حينئذ تعريضُهم للهلاك بالقتل والأسرِ لكن قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} أنسبُ بالتفسير الأول {وَبِئْسَ القرار} على حذف المخصوصِ بالذم أي بئس المقرُّ جهنمُّ أو بئس القرار قرارُهم فيها، وفيه بيان أن حلولهم وصِلِيَّهم على وجه الدوام والاستمرار.
{وَجَعَلُواْ} عطفٌ على أحلوا وما عطف عليه داخلٌ معهما في حيز الصلة وحكمِ التعجيب أي جعلوا في اعتقادهم وحكمِهم {لِلَّهِ} الفردِ الصمدِ الذي ليس كمثله شيءٌ وهو الواحد القهار {أَندَاداً} أشباهاً في التسمية أو في العبادة {لِيُضِلُّواْ} قومَهم الذين يشايعونهم حسبما ضلوا {عَن سَبِيلِهِ} القويمِ الذي هو التوحيدُ ويوقعوهم في ورطة الكفرِ والضلال، ولعل تغييرَ الترتيب مع أن مقتضى ظاهرِ النظمِ أن يُذكر كفرانُهم نعمةَ الله تعالى، ثم كفرُهم بذاته تعالى باتخاذ الأنداد ثم إضلالهم لقومهم المؤدي إلى إحلالهم دار البوار، لتثنية التعجيبِ وتكريرِه والإيذانِ بأن كل واحد من وضع الكفر موضعَ الشكر وإحلالِ القوم دارَ البوار، واتخاذِ الأنداد للإضلال أمرٌ يقضي منه العجبَ، ولو سيق النظمُ على نسق الوجود لربما فُهم التعجيب من مجموع الهَنات الثلاثِ كما في قصة البقرة، وقرئ: {ليَضلوا} بالفتح، وأياً ما كان فليس ذلك غرضاً حقيقياً لهم من اتخاذ الأندادِ لكن لما كان ذلك نتيجةً له شُبّه بالغرض وأدخل عليه اللام بطريق الاستعارة التبعية.
{قُلْ} تهديداً لأولئك الضالين المُضلين ونعياً عليهم وإيذاناً بأنهم لشدة إبائِهم قبولَ الحق وفرْطِ إنهماكِهم في الباطل وعدمِ ارعوائهم عن ذلك بحال أحقاءُ بأن يُضرب عنهم صفحاً ويُعطَفَ عنهم عِنانُ العِظة ويُخَلّوا وشأنَهم ولا يُنهَوْا عنه بل يؤمَروا بمباشرته مبالغةً في التخلية والخِذلان ومسارعةً إلى بيان عاقبته الوخيمة ويقال لهم: {تَمَتَّعُواْ} بما أنتم عليه من الشهوات التي جملتها كفرانُ النعم العظامِ واستتباعُ الناسِ في عبادة الأصنام {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} ليس إلا، فلابد لكم من تعاطي ما يوجب ذلك ويقتضيه من أحوالكم بل هي في الحقيقة صورةٌ لدخولها ومثالٌ له حسبما يلوح به قولُه سبحانه: {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار} الخ، فهو تعليلٌ للأمر المأمورِ، وفيه من التهديد الشديدِ والوعيدِ الأكيد ما لا يوصف، أو قل لهم تصويراً لحالهم وتعبيراً عما يُلجئهم إلى ذلك: تمتعوا، إيذاناً بأنهم لفرْط انغماسِهم في التمتع بما هم فيه من غير صارفٍ يَلويهم ولا عاطفٍ يَثنيهم مأمورون بذلك من قِبل آمر الشهوة مذعِنون لحكمه منقادون لأمره كدأب مأمورٍ ساعٍ في خدمة آمرٍ مُطاع، فليس قوله تعالى: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} حينئذٍ تعليلاً للأمر بل هو جوابُ شرطٍ ينسحب عليه الكلام، كأنه قيل: هذه حالُكم فإن دمتم عليه فإن مصيركم إلى النار وفيه التهديدُ والوعيد لا في الأمر.

.تفسير الآية رقم (31):

{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)}
{قُل لّعِبَادِىَ الذين ءامَنُواْ} خصهم بالإضافة إليه تنويهاً لهم وتنبيهاً على أنهم المقيمون لوظائفِ العبودية الموفون بحقوقها، وتركُ العاطف بين الأمرين للإيذان بتباين حالِهما باعتبار المقول تهديداً وتشريفاً، والمقولُ هاهنا محذوفٌ دل عليه الجوابُ أي قل لهم أقيموا وأنفقوا {يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} أي يداوموا على ذلك، وفيه إيذانٌ بكمال مطاوعتِهم الرسولَ صلى الله عليه وسلم وغايةِ مسارعتِهم إلى الامتثال بأوامره، وقد جوّزوا أن يكون المقولُ يقيموا وينفقوا بحذف لام الأمرِ عنهما، وإنما حسُن ذلك دون الحذف في قوله:
محمدُ تَفدِ نفسَك كلُّ نفس ** إذا ما خِلفْتَ من أمر تَبالا

لدلالة قل عليه، وقيل: هما جوابا أقيموا وأنفقوا قد أقيما مُقامهما وليس بذاك {سِرّا وَعَلاَنِيَةً} منتصبان على المصدرية من الأمر المقدرِ لا من جواب الأمر المذكور أي أنفقوا إنفاق سرَ وعلانية، والأحبُّ في الإنفاق إخفاءُ المتطوَّع به وإعلانُ الواجب، والمرادُ حث المؤمنين على الشكر لنعم الله سبحانه بالعبادة البدنية والماليةِ وتركِ التمتعِ بمتاع الدنيا والركونِ إليها كما هو صنيعُ الكفرة {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ} فيبتاعَ المقصِّر ما يتلافى به تقصيرَه أو يفتدي به نفسَه، والمقصودُ نفيُ عقدِ المعارضة بالمرة، وتخصيصُ البيعِ بالذكر للإيجاز مع المبالغة في نفي العقدِ إذ انتفاءُ البيع يستلزم انتفاءَ الشراء على أبلغ وجهٍ، وانتفاؤُه ربما يتصور مع تحقق الإيجابِ من قبل البائع {وَلاَ خلال} ولا مخالّةٌ فيشفعَ له خليلٌ أو يسامحَه بمال يفتدي به نفسه أو من قبل أن يأتي يومٌ لا أثرَ فيه لما لهَجوا بتعاطيه من البيع والمخالّة ولا انتفاعَ بذلك، وإنما الانتفاعُ والارتفاقُ فيه بالإنفاق لوجه الله سبحانه، والظاهرُ أن من متعلقة بأنفِقوا وتذكيرُ إتيانِ ذلك اليوم لتأكيد مضمونِه كما في سورة البقرة من حيث إن كلاًّ من فقدان الشفاعةِ وما يُتدارك به التقصير معاوضةً وتبرعاً، وانقطاعُ آثار البيع والخِلالِ الواقعَيْن في الدنيا وعدمُ الانتفاع بهما من أقوى الدواعي إلى الإتيان بما تبقى عوائدُه وتدوم فوائدُه من الإنفاق في سبيل الله عز وجل، أو من حيث أن ادخارَ المال وتركَ إنفاقِه إنما يقع غالباً للتجارات والمُهاداة فحيث لا يمكن ذلك في الآخرة فلا وجهَ لادّخاره إلى وقت الموت، وتخصيصُ التأكيد بذلك لميل الطباعِ إلى المال وكونها مجبولةً على حبه والضَّنةِ به، ولا يبعُد أن يكون تأكيداً لمضمون الأمرِ بإقامة الصلاة أيضاً من حيث إن تركَها كثيراً ما يكون بالاشتغال بالبياعات والمُخالاّت كما في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} وقرئ بالفتح فيهما على إرادة النفي العام ودَلالةِ الرفعِ على ذلك باعتبار خطابيَ هو وقوعُه في جواب هل فيه بيعٌ أو خلال؟

.تفسير الآية رقم (32):

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32)}
{الله} مبتدأٌ خبرُه {الذى خَلَقَ السموات} وما فيها من الأجرام العلوية {والأرض} وما فيها من أنواع المخلوقاتِ. لمّا ذكر أحوالَ الكافرين لنعم الله تعالى وأمرَ المؤمنين بإقامة مراسم الطاعةِ شكراً لنعمه شرَع في تفصيل ما يستوجب على كافة الأنامِ، والمثابرةِ على الشكر والطاعة من النعم العِظام والمنن الجِسام حثاً للمؤمنين عليها وتقريعاً للكفرة المُخلّين بها الواضعين موضعَها الكفرَ والمعاصيَ، وفي جعل المبتدإ الاسمَ الجليلَ والخبرَ الاسمَ الموصولَ بتلك الأفاعيلِ العظيمة من خلق هذه الأجرامِ العظام وإنزال الأمطارِ وإخراجِ الثمرات وما يتلوها من الآثار العجيبةِ ما لا يخفى من تربية المهابةِ والدِلالة على قوة السلطان {وَأَنزَلَ مِنَ السماء} أي السحابِ فإن كلَّ ما علاك سماءٌ، أو من الفَلَك فإن المطر منه يبتدىء إلى السحاب ومنه إلى الأرضِ على ما دلت عليه ظواهرُ النصوص أو من أسباب سماويةٍ تثير الأجزاءَ الرطبةَ من أعماق الأرض إلى الجو فينعقد سحاباً ماطراً، وأياً ما كان فمن ابتدائيةٌ {مَاء} أي نوعاً منه هو المطرُ، وتقديمُ المجرورِ على المنصوب إما باعتبار كونِه مبدأ لنزوله أو لتشريفه كما في قولك: أعطاه السلطانُ من خزانته مالاً، أو لما مرّ مراراً من التشويق إلى المؤخّر {فَأَخْرَجَ بِهِ} بذلك الماء {مِنَ الثمرات} الفائتة للحصر، إما لأن صيغَ الجموعِ يتعاور بعضُها موضعَ بعض، وإما لأنه أريد بمفردها جماعةُ الثمرة التي في قولك: أدركت ثمرةُ بستانِ فلان {رِزْقاً لَّكُمْ} تعيشون به وهو بمعنى المرزوق شاملٌ للمطعوم والملبوس مفعولٌ لأخرج ومن للتبيين كقولك: أنفقت من الدراهم ألفاً، ويجوز أن يكون من الثمرات مفعولاً ورزقاً حالاً منه، أو مصدراً من أخرج بمعنى رزَق، أو للتبعيض بدليل قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ} كأنه قيل: أنزل من السماء بعضَ الماء فأخرج به بعضَ الثمرات ليكون بعضَ رزقكم إذ لم ينزل من السماء كلُّ الماء ولا أخرج بالمطر كلَّ الثمار ولا جعل كلَّ الرزق ثمراً، وخروجُ الثمرات وإن كان بمشيئته عز وجل وقدرتِه لكن جرت عادتُه تعالى بإفاضة صورِها وكيفياتها على المواد الممتزجةِ من الماء والتراب وأودع في الماء قوةً فاعلةً وفي الأرض قوةً قابلةً يتولد من اجتماعهما أنواعُ الثمار، وهو قادرٌ على إيجاد الأشياء بلا أسباب ولا موادَّ كما أبدع نفوسَ الأسباب كذلك لما أن له تعالى في إنشائها مدرّجاً من طَور إلى طور صنائعَ وحِكماً يجدّد فيها لأولي الأبصار عِبَراً وسكوناً إلى عظيم قدرتِه ليس ذلك في إبداعها دفعةً، وقوله: لكم، صفةٌ لقوله: رزقاً، إن أريد به المرزوقُ، ومفعولٌ به إن أريد به المصدرُ كأنه قيل: رزقاٍ إياكم. {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك} بأن أقدركم على صنعتها واستعمالِها بما ألهمكم كيفيةَ ذلك {لِتَجْرِىَ فِي البحر} جرياً تابعاً لإرادتكم {بِأَمْرِهِ} بمشيئته التي نيط بها كلُّ شيء، وتخصيصُه بالذكر للتنصيص على أن ذلك ليس بمزاولة الأعمالِ واستعمالِ الآلاتِ كما يتراءى من ظاهر الحال {وَسَخَّرَ لَكُمُ الانهار} إن أريد بها المياهُ العظيمة الجاريةُ في الأنهار العظامِ كما يومىء إليه ذكرُها عند البحر فتسخيرُها جعلُها مُعدّةً لانتفاع الناس حيث يتخذون منها جداولَ يسقوُن منها زروعَهم وجِنانَهم وما أشبه ذلك، وإن أريد بها نفسُ الأنهار فتسخيرُها تيسيرُها لهم.